-->
style="display:inline-block;width:728px;height:90px" data-ad-client="ca-pub-5494815474080203" data-ad-slot="7444598250">

"اللي اختشوا ماتوا".. حكايات نار وحياء في زمن التعري الرقمي!

 
"اللي اختشوا ماتوا".. حكايات نار وحياء في زمن التعري الرقمي!

رأفت عبده


بقلم : رأفت عبده 

في صفحات التاريخ وبين طياته، تُروى قصص تلامس أعماق النفس البشرية، وتكشف عن معادن نفيسة تذوب في أتون المحن. ثلاث حكايات، تفصل بينها قرون وجغرافيا، لكن يجمع بين أبطالها خيط رفيع من الحياء والغيرة على الذات، خيط آثروا التمسك به حتى في مواجهة الموت المحقق.

نيران القاهرة وحياء القرن السابع عشر:

تخيل القاهرة في القرن السابع عشر الميلادي، وحماماتها النسائية الصاخبة. فجأة، يندلع حريق هائل، يلتهم المكان ويطلق صرخات الذعر. الغريزة الأولى للنجاة تدفع الكثيرات من النساء إلى الهروب بأي ثمن، غير آبهات بما يستر أجسادهن. يركضن عاريات في الشوارع خوفًا من النيران المستعرة. لكن وسط هذا الهلع، تقف قلة قليلة شامخة بحيائها، يرفضن الخروج قبل أن يسترن أنفسهن بثيابهن. كانت النتيجة مأساوية، فقد قضت عليهن النيران، لكن قصتهن بقيت شاهدة على قوة الحياء حتى في أحلك الظروف. وعندما سُئل حارس الحمامات عن الضحايا، كانت إجابته الموجزة تحمل عبرة الدهر: "اللي اختشوا ماتوا".

عبارة السلام.. حياء في وجه الغرق:

بعد قرون، تتكرر المأساة في قلب البحر الأحمر، أثناء غرق عبارة السلام المصرية عام 1998. زوجان في غرفة نومهما الخاصة يستيقظان على صفارات الإنذار وصراخ الركاب الهاربين نحو قوارب النجاة. يحاول الزوج النجاة بنفسه بسرعة، لكن زوجته تقف بثبات، ترفض الخروج قبل أن تستر عورتها وترتدي ملابسها. يحاول الزوج استيعاب الموقف المروع: "أنتِ بتعملي إيه، إحنا بنموت؟". لكن إجابتها كانت قاطعة، تحمل إيمانًا عميقًا بقيمة الحياء: "أموت وأنا مستورة خير من أعيش وأنا جسدي عاري". وهكذا، ابتلعها البحر، بينما نجا الزوج ليحكي للعالم أروع قصص الحياء والغيرة على جسد زوجته، قصة امرأة "اختشت فماتت".

تفجيرات بغداد.. حياء في لهيب النار:

وفي بغداد، في خضم تفجيرات البصرة المؤلمة، تتجلى صورة أخرى من صور هذا الحياء النادر. السيدة خالدة، معلمة المدرسة الابتدائية، تجد نفسها محاصرة بالنيران المشتعلة في سيارتها. تخرج مسرعة لتجد ألسنة اللهب قد أحرقت ملابسها وكشفت جسدها في الشارع. للحظة، يتجمد الزمن، ثم تتخذ قرارًا ينم عن عفة راسخة. تعود مسرعة إلى سيارتها المحترقة، إلى قلب النيران، لتستر عورتها وتحفظ جسدها من أعين الغرباء. تدفع حياتها ثمنًا لحيائها، وتحترق حتى تفارق الحياة. لكن فعلها البطولي لم يمر مرور الكرام، فقد نصب أهالي البصرة في العراق تمثالًا تكريمًا لعفتها وحيائها، لتظل قصتها تتردد عبر الأجيال: "اختشت فماتت".

زمن التعري الرقمي.. أين ذهب الخجل؟

هذه القصص المؤثرة، التي سطرت بدم الأبطال، تحمل في طياتها رسالة قوية في زمن نشهد فيه تجردًا تدريجيًا من قيم الحياء والغيرة. فبينما ضحت هؤلاء النسوة بحياتهن من أجل ستر أجسادهن، نرى اليوم نساء يجتهدن لعرض مفاتنهن وكشف عوراتهن، يتبرجن لفتنة العيون في كل مكان.

عندما تتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وتحديدًا منصات مثل "تيك توك"، وتراكُم صور النساء بملابس المنزل شبه العارية، بل وفي أوضاع تخدش الحياء، عندها فقط ستدرك بعمق معنى عبارة "اللي اختشوا ماتوا". لقد أصبح التباهي بالجسد وكشف المستور هو السائد، بينما أصبح الحياء والستر عملة نادرة.

بصمة الأخلاق.. إرث لا يزول:

في ختام هذه الرحلة بين قصص الحياء والتجرد، نتذكر تلك الكلمات الحكيمة: "لكل إنسان بصمة يمتاز بها عن غيره، البعض بصمته الصدق والآخر بصمته الحكمة والبعض بصمته العقل، ولكن الأخلاق تجميع جميع البصمات وتبقى لك بصمة لن تزول حتى بعد رحيلك، تمسك بأخلاقك ترتقي".

فلنتأمل هذه القصص، ولنجعلها نبراسًا يضيء دروبنا في زمن تكاد فيه تنطفئ شعلة الحياء. لنتذكر أن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في أخلاقه وستر عوراته، لا في التعري والتجرد من القيم. فالحياء ليس ضعفًا، بل هو قوة ووقار وعلامة على سمو الروح ورفعة الأخلاق. ولنحرص على أن نترك بصمة طيبة في هذه الحياة، بصمة من الأخلاق الحميدة التي تبقى خالدة حتى بعد رحيلنا.

شارك المقالة عبر:

اترك تعليقا:

الاكتر شيوعا