الصفحات

نار تحت الرماد: عندما يصبح براء الأطفال رمادًا......

 نار تحت الرماد: عندما يصبح براء الأطفال رمادًا......

نار تحت الرماد: عندما يصبح براء الأطفال رمادًا......

بقلم : ستيرة عطية 

من قلب الظلام الدامس، حيث يذبل زهر الطفولة تحت وطأة وحشية لم يعرفها التاريخ القريب، تنطلق هذه الكلمات كشرر متطاير، تحرق 

صمتًا مطبقًا وتكشف عورة مجتمعٍ يرتدي قناع اللامبالاة. لم تكن فاجعة "أدهم" مجرد خبر عابر يُطوى في سجلات الحوادث، بل هي 


زلزال هزَّ ضمائرنا - إن بقي فيها نبض - وكشف هشاشة قيمٍ لطالما تغنينا بها. 


هنا، في "بلد الحضارات"، سال دم البراءة أنهارًا، وارتفعت صرخات مكتومة تستجدي إنسانيتنا المفقودة. ثلاثة غِلمان، لم يبلغوا بعدُ سن 


الرشد، تحولوا بقدرة شيطانية إلى أدوات للقتل والتعذيب، ليُسطروا فصلًا دمويًا في كتاب أسود عنوانه: ضياع البراءة في زمن الصامت.


في بلدٍ كنا نظنها مهدًا للحضارات، وأرضًا للقيم والأخلاق، بزغت فاجعة تهز أركان الإنسانية وتستصرخ الضمائر. لم تكن مجرد حادث عابر، بل كانت صرخة مدوية في وجه مجتمعٍ يبدو أنه بدأ يفقد بوصلته الإنسانية. 


هنا، حيث الشمس تشرق على تاريخ عريق، غابت شمس طفلٍ لم يبلغ ربيع عمره الثاني عشر، ليتحول في لحظات غادرة إلى جثة هامدة. 


لم يعرف هذا الصغير من الدنيا سوى براءتها، لكنه وُدع منها بوحشية تقشعر لها الأبدان.


ثلاثة غِلمان، لم تتفتح أعينهم على الحياة بعد، لم تتجاوز أعمارهم الخامسة عشر عامًا، تحولوا إلى وحوش كاسرة. استباحوا حرمة 


الطريق، واختطفوا طفلاً من بين أحضان أمانه، وجرّوه قسرًا إلى عالمهم المظلم.


 هناك، داخل أسوار منزل تحول إلى مسرح جريمة، عبثوا ببراءته أيما عبث. هشّموا جمجمته الصغيرة، ومزقوا أذنه الطرية، وتركوه 


يتلوى بين الحياة والموت، غارقًا في دمائه. لماذا؟ أي شيطان وسوس لهم بهذا الفعل الشنيع؟ أي وحش كامن في نفوسهم دفعهم إلى هذا 


العنف المجنون؟


يا لهول ما حدث! كيف تحولت الطفولة النقية إلى هذا البشاعة المقززة؟ أين الخلل؟ أفي تربيتنا التي أنجبت هؤلاء القتلة الصغار؟ أم في 


إعلامنا الذي بات يغذي العنف ويُعلي من شأن البلطجة؟ أم في بيوتنا التي ربما تخلت عن دورها في غرس القيم؟ أين القدوة التي يجب 


أن يقتدي بها هؤلاء الصغار؟ أين الضمير الذي يجب أن يوجه أفعالهم؟ أين المدرسة التي يجب أن تكون حصنًا للتربية والأخلاق؟ وأين 


المسجد الذي يجب أن يرسخ معاني الرحمة والإنسانية؟ وأين تلك الرجولة الحقيقية التي نعرفها، ليست استعراضًا للعضلات، بل سندًا 


وعونًا للضعيف والمحتاج؟


دعني أسرد عليك تفاصيل هذه المأساة التي وقعت قبل أيام قليلة في بلطيم بمحافظة كفر الشيخ. الضحية هو الطفل "أدهم حلمي عبد 


المهدي"، يبلغ من العمر أحد عشر عامًا، طالب في الصف السادس الابتدائي. ثلاثة طلاب في المرحلة الإعدادية اعترضوا طريقه في 


الشارع. لم يترددوا في تهديده وسحبه عنوة إلى منزل أحدهم. وثقت كاميرات المراقبة لحظات الرعب في عيني هذا الطفل المسكين وهو 


يُقتاد أسيرًا. دخل حيًا بين أيديهم الغادرة، ولم يخرج إلا جثة هامدة. ضربوه بوحشية حتى فقد وعيه.


 وعندما عجزوا عن حمله، سحبوه على الأرض لمسافة تقدر بمائة وخمسين مترًا، كأنه كيس مهمل، لا روح فيه ولا قيمة. لحقت بهم 


سيارة خال أحد الجناة، فحملوا الجثة الهامدة ووضعوها فيها. هنا فر الجناة الصغار، بينما توجه الخال بالضحية إلى المستشفى. ولكي 


يتملص من المسؤولية، ادعى أن الطفل هو ابنه، وكتب في المحضر كذبًا وزورًا أنه "وقع على الرخام"!


أي قلب متحجر يستطيع أن يتخيل أن هذه الجثة الممزقة، التي تحمل آثار كسور في الجمجمة، وشرخ في الرقبة، ونزيف في المخ، وقطع 


في الأذن، وتهتك في أنسجة الجسد، يمكن أن تكون ناتجة عن "وقعة على الرخام"؟ أي غباء وأي استخفاف بالعقول هذا؟ أي انعدام 


للضمير وأي تجرد من الإنسانية وصل إليه هذا الخال الكاذب؟ ويا له من انتقام ينتظره من رب العالمين!



الغدر الإلكتروني


1. الغدر الإلكتروني: هل غذت منصات التواصل وحشية الجناة؟


ما الذي أصاب عقولنا؟ أين ذهبت الطفولة البريئة؟ أين الرحمة التي كانت صفة مميزة لنا؟ أين الخوف من الله وعقابه؟ وما هو السبب 


وراء هذا الانحدار الأخلاقي المريع؟ هل هو نتاج "تربية الموبايلات" التي تعرض أطفالنا لعالم مليء بالعنف والانحراف؟ أم هي 


المسلسلات التي تمجد البلطجة والغدر والخداع والقتل والتقطيع؟ أم هو انعدام الرقابة على المحتوى الذي يشاهده أبناؤنا؟ أم هو إعلام 


يروج للعنف وكأنه بطولة وشجاعة؟ أم أننا ببساطة فقدنا القدرة على فهم معنى أن تكون "ابن ناس"؟ هل ساهمت سهولة الوصول إلى 


محتوى عنيف وغير لائق عبر منصات المختلفة في تشويه وعي هؤلاء الصغار وتغذية نزعاتهم الإجرامية؟ إن سؤال الرقابة الأسرية 


والمجتمعية على ما يشاهده أطفالنا عبر هذه المنصات بات ضرورة ملحة.


2. الصمت المجتمعي: كيف تخاذلنا عن حماية أطفالنا ؟


اسأل نفسك أيها القارئ... لو كان هذا الطفل هو ابنك؟ أخوك؟ هل كنت سترضى أن يُكتب على جثته: "وقع على الرخام"؟ هل كنت 


ستصمت وتدفن وجعك؟ ولكن المصيبة الأكبر هي أن الجريمة لم تنتهِ بموت أدهم. 


بل بدأت للتو عندما قرر المجتمع أن يصمت. 


عندما خاف كل بيت من المواجهة. 


وعندما قالت كل مدرسة "هذا ليس شأننا". 


وعندما رأى كل إعلامي هذه الفاجعة المروعة وآثر الصمت بحثًا عن تريند آخر. ولكن تذكروا جيدًا... الساكت عن الحق شيطان أخرس. 


ومن يسكت على دم طفل بريء، فلينتظر دمه على باب بيته غدًا. 


أين ذهبت تلك الحمية المجتمعية التي كانت تنتفض لأجل أقل من ذلك؟ هل ابتلعنا جميعًا ألسنتنا في زحمة الحياة وثرثرة العابرة؟


3. مع الذات المذنبة: أين دور الأسرة والمدرسة في توجيه جيل ؟


الحل ليس في أن نبكي على أدهم وننسى. الحل يكمن في أن نراجع منظومتنا بأكملها. نحتاج إلى تربية جديدة من الألف إلى الياء، تربية 


تغرس القيم والأخلاق الحميدة في نفوس أطفالنا منذ نعومة أظفارهم. نحتاج إلى رقابة فعلية وحازمة على المحتوى الذي يشاهده أبناؤنا، 


محتوى يحمي عقولهم وقلوبهم من سموم العنف والانحراف. نحتاج إلى تطبيق حاسم للقانون على كل من تسول له نفسه إيذاء أو ترويع 


الأبرياء. أين دور الأسرة في غرس القيم ومراقبة سلوك الأبناء ؟ وأين دور المدرسة في تعزيز الأخلاق الحميدة وبناء شخصيات سوية 


قادرة على التمييز بين الصواب والخطأ في هذا الفضاء الرقمي المتزايد؟


4. الأرقام الباردة: هل تحولت أرواح أطفالنا إلى مجرد إحصائيات ؟


والأهم من كل ذلك، نحتاج إلى وعي مجتمعي حقيقي بأن الطفل ليس مسؤولية البيت وحده، بل هو مسؤولية بلد بأكمله. حق أدهم وغيره 


من الأبرياء في رقابكم أنتم أيضًا.


 دوركم ليس أن تشاهدوا كل يوم قضية جديدة بصمت وسلبية.


 دوركم أن تكونوا جزءًا من الحل، أن ترفعوا أصواتكم، وأن تطالبوا بالعدل، وأن تعملوا من أجل مستقبل أفضل لأطفالنا، مستقبل خالٍ من العنف والجريمة والوحشية. 


هل سنكتفي بتحويل مأساة أدهم إلى مجرد رقم جديد يُضاف إلى إحصائيات العنف ضد الأطفال التي ربما نتداولها عبر مجموعات دون 


أن يحرك ذلك فينا ساكنًا حقيقيًا؟


5. الأمل المفقود: كيف نعيد بناء جسر الثقة والأمان لأطفالنا؟


في ختام هذه الصرخة المدوية، يبقى السؤال معلقًا في الهواء: كيف يمكننا أن نعيد بناء جسر الثقة والأمان لأطفالنا في هذا العالم 


المتسارع الذي تغزوه تقنيات التواصل الرقمي؟ كيف نستطيع أن نحمي براءتهم من وحشية العصر وصمت المجتمع؟ إن الإجابة تكمن 


في يقظة ضمائرنا، وتكاتف جهودنا، وإصرارنا على اقتلاع جذور العنف والانحراف من مجتمعنا، لكي لا يتحول مستقبل أطفالنا إلى 


رماد آخر تحت نار الإهمال واللامبالاة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق