الصفحات

الريف المصري زمان: براءة الماضي ودفء العلاقات قبل رياح التغيير

الريف المصري زمان


الريف المصري زمان: براءة الماضي ودفء العلاقات قبل رياح التغيير



بقلم : رافت عبده

في رحلة استكشافية عميقة في ثنايا الذاكرة المصرية، ينطلق بنا الإعلامي  رأفت عبده، رئيس مجلس إدارة جريدة الأهرام الإخبارية، في بحث دقيق ومتواصل، يستجلي ملامح الريف المصري الأصيل في زمن مضى، قبل أن تطاله يد التحديث بتحدياته وتقلباته. يتابع الأستاذ رأفت عبده عن كثب هذا التقرير الشامل الذي يسعى إلى استحضار صورة حية للقرية المصرية في أزهى عصورها بساطة وترابطًا، تلك الحقبة التي سبقت دخول مفاهيم جديدة إلى الزراعة والغذاء، وتغلغل نمط حياة عصري ربما أثر على بعض من عاداتها وتقاليدها المتوارثة. من خلال هذا التقرير، الذي يمثل جهدًا توثيقيًا هامًا، نسعى إلى فهم التحولات التي طرأت على هذا النسيج الاجتماعي الفريد، مع إبراز قيمة الروابط الإنسانية الوثيقة والتعاون المثمر الذي كان يميز حياة الأجداد في قراهم الوادعة.

الريف المصري زمان: براءة الماضي ودفء العلاقات قبل رياح التغيير

براءة الماضي ودفء العلاقات قبل رياح التغيير



في ذاكرة الأجيال الأكبر سنًا، يحتفظ الريف المصري بصورة نقية، كلوحة فنية مرسومة بألوان البساطة والهدوء. قبل أن تجتاح رياح التطور الحديث قراه الهادئة، وقبل أن تتسلل إلى موائده أطعمة تحمل في طياتها سمومًا لم يعرفها الأجداد، كان للريف المصري سحره الخاص، وروحًا متفردة تجعل الحياة فيه نسيجًا متماسكًا من الحب والتعاون.



زمن البراءة: الطبيعة سيدة الموقف والخير وفير

كانت أيام زمان في الريف تدور في فلك الطبيعة. شروق الشمس إيذان ببدء يوم حافل بالعمل في الحقول الخضراء المترامية الأطراف، حيث كانت الأرض تهب خيرها بسخاء، بفضل التربة الطينية السمراء و مياه النيل المباركة. لم تكن الزراعة مجرد مهنة، بل كانت جزءًا أصيلًا من هوية الفلاح المصري، يورثها جيلًا بعد جيل. كانت الأدوات بسيطة، تعتمد على قوة السواعد والحيوانات، لكن الإنتاج كان وفيراً مباركاً، خالياً من آفات المبيدات والأسمدة الكيماوية التي غزت الأرض فيما بعد.



كانت الأطعمة طبيعية خالصة، تنبت من الأرض أو تُنتج في البيوت. الخضروات والفاكهة طازجة، تحمل طعم الشمس ورائحة التراب. الألبان والجبن والسمن البلدي كانت تُصنع بأيدي نساء ماهرات، محافظات على أسرار الجودة والنكهة الأصيلة. لم يكن هناك وجود للأطعمة المصنعة أو المعلبة التي تحمل في طياتها مواد حافظة ونكهات صناعية. كان الطعام صحيًا ومغذيًا، ينعكس على صحة الأبدان وقوة الأجساد.

الريف المصري زمان: براءة الماضي ودفء العلاقات قبل رياح التغيير





دفء الروابط الإنسانية: العائلة هي السند والتعاون هو الأساس

كانت العائلة في الريف المصري أيام زمان هي النواة الأساسية للمجتمع، وهي الحصن الذي يلجأ إليه الفرد في أوقات الفرح والحزن. كانت البيوت متقاربة، والقلوب أقرب. كان الجار هو الأخ والسند، وكانت الأفراح والأتراح مشتركة بين الجميع. لم تكن الوحدة والانعزالية تعرف طريقًا إلى تلك القرى الوادعة.

كان التعاون قيمة عليا يتجسد في كل مناحي الحياة. في موسم الحصاد، كانت العائلات تتكاتف لمساعدة بعضها البعض، يتقاسمون الجهد والفرحة بالإنتاج الوفير. في بناء البيوت أو ترميمها، كان الجميع يهبون للمساعدة، تتضافر الجهود لإنجاز العمل في أسرع وقت وبأقل تكلفة. حتى في المناسبات الاجتماعية، كانت القرية بأكملها تشارك، تتجلى روح الوحدة والتكاتف في أبهى صورها.

كانت العلاقات الإنسانية عميقة وصادقة، مبنية على الاحترام المتبادل والتقدير لكبير السن والعطف على الصغير. كانت المجالس العائلية والعشائرية هي الملتقى الذي تُحل فيه الخلافات وتُناقش فيه شؤون القرية، يسودها الحكمة والتسامح والرغبة في الإصلاح.

التحول الحديث: سرعة الحياة وتحديات جديدة

ومرت الأيام، وحملت معها رياح التغيير إلى الريف المصري. دخلت الآلات الزراعية الحديثة إلى الحقول، مما زاد من سرعة الإنتاج وكميته، لكنه في المقابل قلل من الاعتماد على الأيدي العاملة وتسبب في هجرة الكثير من الشباب إلى المدن بحثًا عن فرص عمل جديدة.

الريف المصري زمان: براءة الماضي ودفء العلاقات قبل رياح التغيير




تغيرت طبيعة الزراعة، ودخلت الأسمدة الكيماوية والمبيدات الحشرية إلى الدورة الزراعية، مما أثر سلبًا على جودة التربة وصحة المحاصيل، وتسبب في ظهور أمراض لم تكن معروفة من قبل. تسللت الأطعمة المصنعة والمعلبة إلى موائد الريف، وأصبحت جزءًا من النظام الغذائي، مما أثر على الصحة العامة وأدخل مفاهيم جديدة لم تكن موجودة في الماضي.

توسعت القرى، وتباعدت المنازل، ودخلت وسائل الاتصال الحديثة إلى البيوت، مما أثر على طبيعة العلاقات الاجتماعية. أصبح التواصل وجهًا لوجه أقل، وحل محله التواصل الافتراضي عبر الشاشات. بدأت مظاهر الفردية تظهر، وتراجعت بعض مظاهر التعاون والتكاتف التي كانت سمة مميزة للريف في الماضي.

الفارق بين الأمس واليوم: حنين إلى الماضي وتحديات الحاضر

الفارق بين الريف المصري أيام زمان والريف المصري اليوم شاسع. بالأمس، كانت الحياة أبطأ وأكثر بساطة، لكنها كانت مليئة بالدفء الإنساني والترابط الاجتماعي والأطعمة الصحية. اليوم، أصبحت الحياة أسرع وأكثر مادية، وتحمل في طياتها تحديات جديدة تتعلق بالصحة والبيئة والعلاقات الإنسانية.

هناك حنين جارف إلى الماضي، إلى تلك الأيام التي كانت فيها القلوب أنقى والعيشة أهنأ. لكن في المقابل، يحمل التطور الحديث جوانب إيجابية لا يمكن إنكارها، مثل سهولة الحصول على المعلومات والخدمات، وارتفاع مستوى المعيشة في بعض الجوانب.

يبقى التحدي الأكبر هو كيفية الحفاظ على جوهر الروح الريفية الأصيلة، قيم التعاون والتكاتف والمحبة، في ظل التغيرات الحديثة. كيف يمكننا الاستفادة من التطور دون أن نفقد هويتنا ودفء علاقاتنا الإنسانية؟ كيف يمكننا أن نتبنى أساليب زراعية صحية ومستدامة تحافظ على أرضنا وصحتنا؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة تقع على عاتق أبناء الريف المصري اليوم، فهم ورثة الماضي وصناع المستقبل. عليهم أن يستلهموا من قيم أجدادهم، وأن يتبنوا التطور بوعي ومسؤولية، للحفاظ على جمال الريف المصري وروحه الفريدة، وضمان مستقبل أفضل لأجيال قادمة تنعم بخيرات الأرض ودفء العلاقات الإنسانية.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق