من عباءة البطولة إلى رداء الخيانة.. ومن قلب البربرية ينبض بالإيمان: حين انقلبت الموازين وصار الصالح طالحًا والطالح صالحًا!
من عباءة البطولة إلى رداء الخيانة.. ومن قلب البربرية ينبض بالإيمان: حين انقلبت الموازين وصار الصالح طالحًا والطالح صالحًا!
عزيزي القارئ، استعد لرحلة عبر دهاليز التاريخ الملتوية، حيث تتشابك فيها خيوط الولاء والخيانة، وتتبدل فيها صور الأبطال
والجبناء، وتتغير فيها معايير الخير والشر. هل اعتدت أن تنظر إلى أحفاد العظماء بعين الإجلال؟ هل ترسخت في ذهنك صورة
نمطية عن الغزاة البرابرة؟ استعد لتحطيم هذه الصور النمطية، فالتاريخ، كما الحياة، مليء بالمفاجآت والانعطافات الحادة التي
تجعلنا نعيد تقييم كل ما ظننا أننا نعرفه.
تخيل معي، اسمًا يتردد صداه في أرجاء التاريخ الإسلامي عزًا وفخارًا: صلاح الدين الأيوبي. قائد فذ، محرر القدس، رمز
للشهامة والفروسية. لكن، ماذا لو أخبرتك أن أحد أحفاده، الذي حمل اسمًا يشي بالبركة واليمن – الناصر يوسف – سلك
طريقًا مظلمًا، طريقًا قاده إلى التحالف مع أعداء أمته ودينه؟
من عباءة البطولة إلى رداء الخيانة.. ومن قلب البربرية ينبض بالإيمان: حين انقلبت الموازين وصار الصالح طالحًا والطالح صالحًا!
الناصر يوسف.. حفيد البطل الذي باع قضيته:
الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز، آخر ملوك الأيوبيين، ولد في كنف العظمة، محاطًا بأمجاد أسلافه. لكن يبدو أن بريق
السلطة الزائف أعمى بصيرته، أو ربما كانت الظروف التاريخية المعقدة أقوى من إرادته. فبعد صعود شجر الدر إلى عرش مصر
في عام 1250، وجد الناصر يوسف نفسه في صراع مرير على النفوذ. وبدلًا من أن يوحد الصفوف في وجه التحديات الخارجية،
انغمس في حروب داخلية خاسرة ضد مصر.
الأكثر إثارة للصدمة والدهشة، بل والخزي في سجل التاريخ، هو لجوء الناصر يوسف إلى أحضان أعداء الأمة. سعى هذا
الحفيد الذي يحمل اسم صلاح الدين إلى التحالف مع الصليبيين، أولئك الذين طالما حاربهم جده ببسالة، طمعًا في تحقيق
مكاسب سياسية ضيقة. ولكن، يبدو أن القدر كان يخبئ له تحالفًا أكثر كارثية، تحالفًا مع قوى اجتاحت الشرق الإسلامي
بوحشية لم يشهد لها مثيل: التتار المغول.
بعد أن دمر المغول بغداد، حاضرة الخلافة العباسية ومركز العالم الإسلامي، وسيطروا على سوريا، دب الرعب في قلوب
الجميع. الناصر يوسف، الذي كان يمني نفسه بتحالف يقيه شرهم، وجد نفسه هاربًا مذعورًا نحو مصر قبل وصول جحافلهم
إلى دمشق. لكن قطز، سلطان مصر المملوكي الشجاع، رفض استقباله، ربما مستشعرًا خيانته أو ضعف موقفه. ليجد حفيد
البطل نفسه تائهًا في صحراء غزة، ذليلًا مهانًا، حتى وقع في قبضة المغول الذين كان يسعى للتحالف معهم.
هولاكو، قائد المغول السفاح، لم يتردد في إعدام الناصر يوسف في تبريز عام 1260. غضبه من هزيمة جيوشه في معركة
عين جالوت التاريخية على يد المماليك في مصر، جعله يحمل الناصر يوسف جزءًا من المسؤولية، متهمًا إياه بالتخاذل في
تقديم العون الكافي. وهكذا، انتهت حياة آخر ملوك الأيوبيين نهاية مأساوية، تاركة وراءها وصمة عار في تاريخ سلالة مجيدة.
المؤرخون لم يترددوا في وصفه بالجبن وضعف الشخصية، ليتحول اسم "الناصر" إلى نقيضه في سجل التاريخ.
من عباءة البطولة إلى رداء الخيانة.. ومن قلب البربرية ينبض بالإيمان: حين انقلبت الموازين وصار الصالح طالحًا والطالح صالحًا!
بركة خان.. البربري الذي آمن وأنقذ أمة:
على الجانب الآخر من الصورة القاتمة، يبرز اسم آخر، اسم قادم من قلب الإمبراطورية المغولية نفسها، تلك القوة التي دمرت
الأخضر واليابس وسفكت الدماء بغزارة. هذا الاسم هو بركة خان، ابن عم هولاكو وحفيد جنكيز خان السفاح. من قلب هذه
الإمبراطورية الوثنية البربرية، بزغ نور الإسلام في قلب هذا الأمير المغولي.
اعتنق بركة خان الإسلام، ليتحول من عدو محتمل إلى حليف قوي للمسلمين. هذه الخطوة الجريئة لم تكن مجرد تحول
شخصي، بل كانت لها تداعيات هائلة على مسار التاريخ. فقد تحالف بركة خان مع الملك الظاهر بيبرس، سلطان مصر والشام
المملوكي، أحد أبرز القادة المسلمين الذين تصدوا للخطر المغولي.
هذا التحالف بين أمير مغولي مسلم وسلطان مملوكي عربي كان له دور حاسم في إضعاف الإمبراطورية المغولية وتمزيق
وحدتها. فبدلًا من أن تتجه كل قوة المغول نحو استكمال فتوحاتها في العالم الإسلامي، انشغلت بحروب داخلية وصراعات
على النفوذ بين فروع الإمبراطورية المختلفة، وكان لتحالف بركة خان وبيبرس تأثير كبير في هذه الانقسامات.
لقد كان إيمان بركة خان وتحالفه مع المسلمين بمثابة نقطة تحول هامة في تاريخ الصراع ضد المغول. فبدلًا من أن يكون قوة
إضافية تضاف إلى صفوف الغزاة، أصبح عاملًا مهمًا في إضعافهم وصد خطرهم عن العالم الإسلامي. هكذا، تحول أمير مغولي،
نشأ في بيئة وثنية، إلى مدافع عن الإسلام وحليف للمسلمين، ليصبح اسمه محفورًا في سجلات التاريخ كواحد من الذين
ساهموا في إنقاذ الأمة من براثن الغزو المغولي.
انقلاب الموازين.. دروس وعبر:
إن قصتي الناصر يوسف وبركة خان تحملان في طياتهما دروسًا وعبرًا عميقة. فليست العبرة بالأنساب أو النشأة، بل بالفعل
والجوهر. قد ينحدر المرء من أعظم السلالات ويحمل أسمى الأسماء، لكن أفعاله قد تجره إلى أسفل سافلين. وعلى الجانب
الآخر، قد يخرج الخير من حيث لا نتوقع، وقد ينبع النور من قلب الظلام.
إن التاريخ ليس دائمًا أبيض وأسود، بل هو لوحة فسيفسائية معقدة تتداخل فيها الظلال والأضواء. قد يتحول الصالح إلى طالح
بفعل ضعف النفس أو ضغوط الظروف، وقد ينقلب الطالح صالحًا بنور الهداية وقوة الإيمان.
فلنتأمل هذه القصص مليًا، ولنتعلم أن الحكم على الأشخاص يجب أن يكون بناءً على أفعالهم الحقيقية، لا على أصولهم أو
أسماءهم. ولنتذكر دائمًا أن الخير والشر ليسا حكرًا على أحد، وأن التحولات الجذرية ممكنة في أي لحظة. فالتاريخ، كما
الحياة، مليء بالمفاجآت التي تجعلنا نعيد النظر في كل تصوراتنا المسبقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق